مخاض عالم جديد .. فيروس كورونا يعيد تشكيل الواقع.. العولمة والديمقراطية وسلطة الدولة في قفص المحاكمة.. وتحولات جذرية في موازين القوة الدولية

فيروس كورونا يطلق طلقة الإشارة لسباق جديد على زعامة العالمالعزلة في مقابل العولمة قضية كبرى تنتصر الحسمأزمة فيروس كورونا أظهرت كفاءة الدول السلطوية مقابل ارتباك الديمقراطيات
"Andrà tutto bene" عبارة إيطالية تعني بالعربية "كل شيء سيكون على ما يرام"، ربما كانت عبارة عادية يتبادلها الإيطاليون يوميًا كلازمة من لوازم الحديث دون أن يكترث لها أحد كثيرًا، على أنها اكتسبت دلالة ووزنًا جديدين بعدما غطى فيروس كورونا العالم بسحب الموت والخوف والكآبة، فأصبحت شعارًا مرفوعًا في طول البلاد وعرضها تذكر الجميع بأن هذه الأزمة ستمر كغيرها وأن الاستسلام ليس خيارًا واردًا.
لكن هل "كل شيء سيكون على ما يرام" حقًا؟ تجيب صحيفة "الجارديان" البريطانية بأنه من المبكر التنبؤ بالعواقب السياسية والاقتصادية لأزمة فيروس كورونا بينما نحن في منتصف ما وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه "حرب ضد عدو خفي".
وأضافت الصحيفة أن قادة العالم والدبلوماسيين والخبراء الجيوسياسيين يدركون جيدًا أننا نشهد مخاض عالم جديد، وفي عالم ما بعد كورونا سيخضع كل ما كان قبله، من الأيديولوجيات المتناحرة إلى القوى السياسية إلى القادة إلى أنظمة التماسك الاجتماعي، كل ذلك سيخضع لعملية إعادة تقييم وسيمثل في قفص المحاكمة أمام الرأي العام العالمي.
وبشكل تلقائي، بدأ العالم بالفعل يستخلص الدروس والعبر من أزمة فيروس كورونا، وهو ما عبر عنه ماكرون بقوله "هذه الفترة ستعلمنا الكثير. سوف تنمحي قناعات وآراء كانت راسخة. الكثير من الأمور التي اعتقدنا أن من المستحيل أن تحدث سوف تحدث. لن يكون ما بعد هذه الأزمة كما قبلها. سنخرج منها أقوى وسنتغلب على كل العواقب". ووعد ماكرون بأن يبدأ الخطوة الأولى بضخ استثمارات أكبر في قطاع الرعاية الصحية.
وفي ألمانيا، قال وزير الخارجية السابق زيجمار جابرييل "لقد استخففنا بالدولة وأخذنا نضعف بنيتها لمدة 30 عامًا"، وتوقع أن تبدي الأجيال المقبلة إعجابًا أقل ونفورًا أكبر من العولمة. وفي إيطاليا دعا رئيس الوزراء السابق ماتيو رينزي إلى تشكيل لجنة لدراسة كل ما يتعلق بالمستقبل.
وفي شوارع هونج كونج انتشرت كتابة شعار على الحوائط يقول "لا يمكن أن تعود الأمور إلى طبيعتها لأن الوضع الطبيعي بحد ذاته كان هو المشكلة أصلًا". وفي الولايات المتحدة نبه وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر حكام العالم إلى أن عليهم الاستعداد إلى عالم ما بعد كورونا.
وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش إن "العلاقات بين القوى الكبرى لم تكن يومًا أكثر عقمًا من اليوم. لقد برهن لنا فيروس كورونا بوضوح على أننا يجب أن نتكاتف جميعًا معًا أو نتلقى هزيمة ساحقة". أما كبرى مراكز الأبحاث في العالم فهي مشغولة بالتنبؤ بما إذا كانت الصين أم الولايات المتحدة ستكون قائدة عالم ما بعد كورونا.
وفي أوروبا والولايات المتحدة وآسيا، بل في عموم العالم المتقدم، طفت إلى السطح قضايا جدلية كبرى طغت المناقشات حولها على أزمة فيروس كورونا نفسها، مثل أولوية الاقتصاد على الصحة العامة أو العكس، ومزايا تأسيس منظومة صحية مركزية أو لامركزية، ومساوئ العولمة، ومستقبل الاتحاد الأوروبي، بل ومزايا النظم السياسية السلطوية القادرة على فرض إجراءات صارمة على المجتمع.
لقد بدت أزمة فيروس كورونا وكأنها سباق إلى زعامة العالم، ووحدها الدول التي ستثبت كفاءتها وفعالية نظمها السياسية والإدارية هي التي ستنجو بأقل الخسائر وستحظى بشعبية أكبر. والآن تُبقي كل دولة أعينها على الدول المحيطة بها، كي ترى ما ستثمر عنه جهود الحكومات لمحاصرة وباء كورونا.
وفي تقديرها لتأثيرات فيروس كورونا المحتملة على السياسة الدولية، تقول المؤسسة البحثية مجموعة الأزمات الدولية "يمكننا الآن أن نميز بين رؤيتين متنافستين، إحداهما تقول إن الدرس المستفاد من أزمة فيروس كورونا هي أن الدول يجب أن تتعاون وتتكاتف من أجل تجاوز الازمة على نحو أفضل، والأخرى ترى أن على كل دولة أن تنأى بنفسها عن بقية الدول كي تحمي شعبها من المخاطر الواردة من الخارج".
وأضافت مجموعة الأزمات الدولية "لقد مثلت أزمة فيروس كورونا أيضًا اختبارًا صارمًا لكفاءة نظم الحكم الليبرالية والسلطوية على السواء في الاستجابة لمحنة اجتماعية شديدة الوطأة، واختبارًا لقدرات المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة، بل واختبارًا للقيم السياسية والقوى التي تتبناها".
وفي مقال نشره بصحيفة "إل بايس" الإسبانية كتب الفيلسوف الكوري الجنوبي بيونج تشول هان أن الدول التي ستنتصر على أزمة فيروس كورونا هي دول الشرق لا الغرب، مضيفًا "الدول الآسيوية مثل اليابان وكوريا والصين وهونج كونج وتايوان وسنغافورة، تلك الدول التي تهيمن عليها ذهنية سلطوية مستمدة من تقاليدها الثقافية التاريخية. إن الشعوب في تلك الدول أقل ميلًا للتمرد على السلطة وأكثر خضوعًا لها من الشعوب الأوروبية، لأنهم أكثر ثقة في الدولة، والحياة اليومية لديهم أكثر تنظيمًا. وبالأساس، اعتمدت الدول الآسيوية في مكافحة الوباء على المسح الرقمي (الذي تبنته بالأصل لمراقبة السكان لأغراض سياسية). إن الدول الآسيوية لا تعتمد في محاربة الأوبئة على علماء الأوبئة والفيروسات فحسب، وإنما على علماء الحاسب الآلي وخبراء البيانات الرقمية كذلك".
وتنبأ تشول هان بأن "الصين سيمكنها الآن ترويج منظومة الشرطة الرقمية الخاصة بها بعتبارها نموذجًا ناجحًا في مكافحة الأوبئة، وستدافع بفخر أكبر عن نظامها السياسي والإداري السلطوي القوي، وسيكون هذا النموذج أكثر جاذبية للشعوب الغربية التي ستبدي استعدادًا أكبر للتخلي عن حرياتها في سبيل الأمان، لأنها في جميع الأحوال تخلت عن حرياتها بالفعل حين ارتضت البقاء حبيسة المنازل".
وقالت صحيفة "الجارديان" إن الصين دخلت الآن بالفعل مرحلة الانتصار على الوباء، وبدأت بالنظر إلى نفسها باعتبارها منقذة العالم، لا البؤرة التي خرج منها هذا الوباء إلى العالم، وشرع الجيل الجديد من الدبلوماسيين الصينيين الشباب يكتبون بفخر على وسائل التواصل الاجتماعي عن النصر الذي خرجت به بلادهم من المحنة.
وفي مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، كتب منظّر العلاقات الدولية ستيفن والت أن "فيروس كورونا سيعجل بتحول مركز الثقل والنفوذ الدولي من الغرب إلى الشرق. لقد استجابت كوريا الجنوبية وسنغافورة للأزمة على أفضل نحو ممكن، وتداركت الصين بكفاءة الأخطاء التي ارتكبتها في بداية الأزمة، أما استجابات الحكومات في أوروبا والولايات المتحدة فكانت أكثر ارتباكًا وقوضت سمعة نموذج الدولة الغربية".
لكن على الجانب الآخر، يقول الأستاذ بجامعة أشوكا الهندية شيفشنكار مينون إن "الخبرة أثبتت أن الدول السلطوية والشعبوية لم تعالج أزمة كورونا بشكل أفضل، فالحقيقة أن الدول التي استجابت للأزمة مبكرًا وبكفاءة هي دول ديمقراطية بالأساس مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة، وليست الدول التي يحكمها حكام مستبدون أو شعبويون".
ويتفق المفكر السياسي الأمريكي الشهير فرنسيس فوكوياما مع هذا الطرح، مؤكدًا أن "الخط الفاصل بشأن الاستجابة الفعالة لأزمة ما ليس هو الخط الفاصل بين الدول الديمقراطية والديكتاتورية، فالمحدد الرئيسي لكفاءة الاستجابة ليس نموذج الحكم وإنما قدرة الدولة ومدى الثقة الشعبية في الحكومة قبل أي شيء آخر".

المصدر : صدي البلد