د. محمد أبو سمرة يكتب: ما بين المنفى والوطن.. حنينٌ وذكرياتٌ وأوجاع

اثنان وثلاثون عامًا مرَّت علينا منذ حملتنا طائرات العدو المروحية من سجن غزة المركزي ، لتُلقي بنا على بوابة معبر زمريَّا لحدودي ، التي كانت تفصل حينها بين الجزء المحتل من الجنوب اللبناني ، والمحرر، وعلى بُعد مسافةٍ قريبة من القرية اللبنانية التي أصبحت أكثر شهرةً من كثيرٍ من المدن الكبرى في العالم وعواصم لعديد من دول العالم ( قرية مرج الزهور ) .
في ذلك اليوم الإثنين 11/4/1988 تم إبعادي من غزة إلى لبنان عقب خمسة أشهر من اعتقالي الأخير بتاريخ 17/12/1987 ، على ذمة الإبعاد ضمن أول دفعة للمبعدين من فلسطين المحتلة عقب تفجُّر الإنتفاضة الأولى ، وتنفيذًا لقرار وزير الحرب الصهيوني إسحاق رابين بالإبعاد بصفةٍ دائمة خارج فلسطين المحتلة ، لدوري في تفجير وقيادة الإنتفاضة الأولى ، وكذلك لدوري ومشاركتي في تأسيس وقيادة حركة الجهاد الإسلامي … وكانت هذه هي المرة العشرين التي أُعتقل فيها في سجون العدو ، وجاءت بعد بضعة أشهر من إطلاق سراحي الذي سبقه ، حيث خرجت بعد قضائي مدة محكوميتي بتاريخ 16/5/1987 ، وهو اليوم السابق لنجاح مجموعة مجاهدة من أصدقائي وأخوتي وأحبابي بالهروب من سجن غزة المركزي في واحدةٍ من أشهر وأنجح عمليات الهروب من سجون ومعتقلات العدو الصهيوني ، ليصل مجموع ما أمضيته في تلك السجون الصهيونية اللعينة قرابة العشرة أعوام ، كنتُ خلالها أُحاكم بمددٍ مختلفة بالسجن نتيجةً لاعترافات الآخرين ، والقاصي والداني يعرف جيدًا أن تلك السجون اللعينة ووسائل التعذيب البشعة لم تتمكن من كسر إراداتي ، ولم يُفلح المحققون يومًا في إنتزاع إعترافي على أي شيء ، ولا في هزيمتي أوكسر إرادتي ، وعند كل مرةٍ كُنتُ أخرجُ فيها من معتقلات العدو الصهيوني ، كنتُ بحمدلله وكرمه ولطفه وتوفيقه ، أكثر قوةً وصلابةً وعنادًا وإصرارًا وثباتًا ..
ولذلك فقد كان من بين مقدمة لائحة الإتهام التي بموجبها تم تنفيذ الإبعاد القسري التي زادت بنودها عن الأربعين بندًا : ( لقد تقرر إبعاد "فلان " عن البلاد بصفةٍ دائمةٍ ، لأنَّ السجن لم يعد رادعًاله …) …وبقدر ما كان الإبعاد عن فلسطين الحبيبة مؤلمًا وقاسيًا ، لكنَّه أتاح لي التعرف المباشر والتماس مع الكثير من كبار قادة الثورة الفلسطينية وتوطيد علاقتي بهم ، وعلى رأسهم الزعيم الفلسطيني الخالد الشهيد أبوعمار ياسرعرفات رحمه الله ، والشهيد القائد أبوإياد صلاح خلف رحمه الله ، والشهيد القائد أبو المنذر صبحي أبوكرش رحمه الله ، والشهيد القائد أبوعلي شاهين رحمه الله ( الذي كانت تربطنا به علاقة خاصة متينة بدأت داخل سجون العدو منذ منتصف السبعينيات ، واستمرت وتوطدت إثر إطلاق سراحه عام1982 ، ثم إبعاده عام1985 ، وإبعادنا عام 1988 ، ثم عودتنا جميعًا للوطن ، وبقيت متينةً حتى رحيله المفجع ومشاركتنا في تشييع جثمانه الطاهر في رفح عام يوم 28/5/2013) ، والرئيس محمود عباس حفظه الله ، وغالبية قادة حركة فتح وأعضاء لجنتها المركزية ، وأعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ، والعديد غيرهم من قادة ومسؤولي كافة الفصائل الفلسطينية ، والمقاومة اللبنانية ، والقوى والأحزاب اللبنانية والعربية والإسلامية ، والعديد من رموز وقادة وكوادر حركات التحرر في الكثير من دول العالم ، والعديد من الرؤساء وكبار المسؤولين والبرلمانيين العرب ..
وكانت فاجعتنا الكبري ، التي لم تكت تقل عن فاجعة إبعادنا عن وطننا الحبيب ، اغتيال العدو الصهيوني بعد خمسة أيام من إبعادنا لأمير الشهداء خليل الوزير رحمه الله ، والذي ربطتنا به علاقة وطيدة خلال سنوات نضالنا داخل الوطن المحتل ، يوم 16/4/1988 ..
ومنذ الإبعاد القسري عن الوطن الحبيب ، حتى العودة إليه بعد عشرة أعوام من المنفى ، والمكوث الجبري أثناء محاولة العودة عامًا كاملًا في الجانب المصري من معبر رفح البري ، بسبب منع سلطات الاحتلال لعودتي ، ثم نجاح الزعيم الفلسطيني الخالد الشهيد ياسرعرفات رحمه الله ، وبدعم وضغط من القيادة المصرية في إنتزاع الموافقة على عودتي ، إلى مسقط رأسي في مدينة غزة الحبيبة ، هناك الكثير … الكثير مما يمكن قوله وكتابته وتوثيقه وتأريخية ، فقدكانت حقبةً تاريخية مهمة مازالت أثارها حيَّةً ، ومثلما كانت مليئةً بالإنجازات والنجاحات والتضحيات والعطاء والبطولات والأسرار ، فقد كانت أيضًا مليئة بالخيبات والأحزان والدموع والعذابات والآلام والأوجاع والصدمات التي لاتحتملها الجبال..!!..
بينما لو أردتُ التأريخ والكتابة عن الإثنين وثلاثين عامًا منذُ الإبعد القسري عن فلسطين الحبيبة وحتى الآن ، ربما لن تكفيني مئات المجلدات للكتابة والتوثيق والتأريخ ، وتسجيل شهادتي للتاريخ والأجيال المقبلة..
ولكن السؤال : هل حان وقت الكتابة ؟ ، أم لابد من الانتظار لمزيدٍ من الوقت ، حتى تكتمل ملامح الصورة ، وتصل المرحلة والحقبة إلى نهاياتها المحتومة ؟!..

المصدر : صدي البلد