لم يكن يتصور "تيودور روزفلت" نائب الرئيس الأمريكي الذي صار الرئيس الــ 26 للولايات المتحدة بعد ذلك، يوم وقف أمام حشود من مؤيديه ليوضح لهم أنه لم يعد هناك مجال لأن تتجاهل الولايات المتحدة الواجبات الملقاة على عاتقها تجاه "الأمم الأخرى"، وذكّر مستمعيه بالمثل الشهير: "تحدث بلين وتسلّح بعصا غليظة فالطريق أمامك طويل"، لم يكن يتصور أن يأتي اليوم الذي تتخلى فيه أمريكا عن مسؤولياتها الدولية خاصة في أوقات الأزمات حتى مع أقرب حلفائها.
ومن كان يصدق أن تكون واشنطن غير قادرة حتى على حماية نفسها من فيروس كورونا، فالرعاية الصحية لعامة الشعب في الولايات المتحدة ليست من أولويات النخب في المنظومة الأمريكية، وحتى الجنود النظاميون لم يكونوا بعيدين عن الإصابة لدرجة أن أصيب جنود كثر، قيل أن عددهم تجاوز 4000 آلاف على متن حاملة الطائرات التي تحمل نفس اسم الرئيس الأمريكي السادس والعشرين "يو إٍس إس تيودور روزفلت" في عرض المحيط الهادي، مما اضطر السلطات الأمريكية إلى عزل كل أفراد الطاقم، البالغ عددهم مايزيد على خمسة آلاف جندي، في المرفأ بقاعدة "غوام" الأمريكية، بل أقال وزير البحرية بالوكالة توماس مودلي قائد حاملة الطائرات بيرت كروزييه بعد تسريب الأخير رسالة حملت انتقادات للبحرية الأميركية بسبب انتشار الفيروس على حاملة الطائرات يو أس أس روزفلت. وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع جوناثان هوفمان إن "وزير الدفاع يدعم قرار الإبعاد".
"تيوردو روزفلت" الذي توفي منذ أكثر من 100 عام وكان من كبار الداعمين للعصر التقدمي في الولايات المتحدة، لم يكن يعرف أن التنين الصيني سيمثل صعوده الظاهرة الأبرز في السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين، باعتباره التحدي الأكبر للولايات المتحدة، وأنه يجب على واشنطن لتحقيق التوازن معه أن تمنعه من فرض الهيمنة على جيرانه الإقليمين، أو إعادة تشكيل نظام دولي جديد.
ويبدو أن هذا ما يحدث الآن فـــ "التنين الصيني" يشن حملة علاقات عامة دعائية ضخمة سعيا منه لتشكيل نظام دولي جديد يحمي مصالحه عقب انتهاء أزمة جائحة "كورونا المستجد" أو "كوفيد 19". وحتى الآن لم تنجح واشنطن في الاختبار. وبينما تواصل أمريكا تعثرها، تتحرك بكين بسرعة وحنكة للاستفادة من الفرصة التي أتيحت لها بفضل الأخطاء التي ارتكبها الأمريكيون.
والولايات المتحدة الأمريكية التي تبوأت موقع الريادة في العالم على مدار العقود السبعة الماضية، لم تبن هذه الريادة على أسس الثراء والقوة العسكرية فقط، ولكن بنتها أيضا على أساس الشرعية من أسلوب الحكم الداخلي في البلاد وقدرتها على توفير المواد والسلع على النطاق العالمي وقدرتها ورغبتها في حشد الردود الدولية للكوارث والأزمات، وجاء وباء كورونا ليمثل امتحانا للعناصر الثلاثة الأساسية للزعامة الأمريكية.
حرب السويس
ويذكرنا الموقف الأمريكي الحالي بتدهور واضمحلال الدور البريطاني في العالم، عقب شنها بالاشتراك مع فرنسا وإسرائيل للعملية العسكرية الفاشلة التي خططت لها لندن في عام 1956 للاستيلاء على قناة السويس- العدوان الثلاثي- والتي عرت تدهور الدور البريطاني الريادي ومهدت لانتهاء دور بريطانيا كقوة عالمية، فهل ستتحول أزمة فيروس كورونا إلى أزمة سويس جديدة أيضا.
بكين أم واشنطن
ولا شك أن هشاشة تصدّي الولايات المتحدة لفيروس كورونا وغيابها عن قيادة البشرية في مواجهته أضعف كثيرًا من دورها العالمي فلم تجد نفعا الترسانة النووية، ولا الصواريخ العابرة للقارات، ولا عشرات وربما مئات القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في أرجاء المعمورة "حوالي 725 قاعدة عسكرية".
بل إن الأمر امتد بالولايات المتحدة إلى محاولة سرقة الأطباء والعاملين في المجال الصحي من الدول الأخرى حيث أنها أعلنت عن تقديم تسهيلات بشأن تأشيرات العمل والزيارة لأراضيها، للأجانب العاملين في القطاع الصحي؛ ونقل موقع وزارة الخارجية الأمريكية، أن أمريكا تشجع قدوم العاملين في المجال الصحي؛ للحصول على تأشيرة عمل أو تأشيرة زيارة.
وفي المقابل، تبدو الصين التي فيها ظهر ومنها انتشر الفيروس أكثر مقدرة على السيطرة على الموقف؛ بل إن بكين حرصت على الظهور بمظهر من يمدّ أيادي العون للبلدان الأخرى التي ينتشر فيها الوباء، ومصممة على الخروج من الأزمة، كقوة عظمى وموقعها معزز. فيما تبدو أمريكا ومعها دول الاتحاد الأوروبي في صورة من تخلى عن أقرب الحلفاء في هذا المنعطف الحرج.
استثمار كورونا
وتستخدم الصين خبرتها ومعرفتها بوباء كورونا لمحاولة وضع ثوابت جديدة لعلاقاتها المستقبلية مع الولايات المتحدة وغيرها، علاقات قد تحول الصين إلى قوة لا غنى عنها في النظام الجديد.
ويمكن النظر إلى مبادرات الصين في توفير العون لجهود محاربة فيروس كورونا في دول جوارها – اليابان وكوريا الجنوبية – وتوفير المعدات الطبية الضرورية لدول الاتحاد الأوروبي من هذا المنظور، بل امتد الأمر لعرض تقديم المساعدة للولايات المتحدة نفسها بعد أن أعربت حكومة الصين عن استعدادها للتعاون مع نظيرتها الأمريكية في جهود مكافحة انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، وذلك خلال اتصال هاتفي جمع وزير الصحة الصيني ما شياو ويي، بوزير الصحة الأمريكي أليكس عازر، الثلاثاء الماضي.
الموقف الأوروبي
الموقف الأوروبي مما يحدث لخصه جوزيب بوريل – الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، في مقال له تحت عنوان "جائحة فيروس كورونا والعالم الجديد الذي يخلقه"، مؤكدا أن كوفيد-١٩ سيعيد تشكيل عالمنا، في إِشارة منه للمنافسة بين الصين من جهة في مقابل الهيمنة الأمريكية وضرورة أن تحافظ أوروبا على مصالحها وفقا لهذا المتغير الجديد وأن تدرك حرب الاستقطاب التي تقوم بها الصين.
وقال إنه لا يعرف حتى الآن متى ستنتهي الأزمة، ولكن يمكن للجميع أن يكونوا على يقين أنه في الوقت الذي سيحدث فيه ذلك، سيبدو عالمنا مختلفًا تمامًا. وسوف يعتمد مدى الاختلاف على الخيارات التي نتخذها اليوم.
شريك مسؤول وأهل للثقة
وذكر بوريل أن هناك معركة عالمية من الروايات والسرديات يكون التوقيت فيها عاملًا حاسمًا، فالصين الآن ترسل معدات وأطباء إلى أوروبا، كما يفعل الآخرون أيضًا، مؤكدا أن الصين تريد أن تدفع بقوة برسالة مفادها أنها، وعلى عكس الولايات المتحدة، شريك مسؤول وموثوق.
وأكد أنه وإن كان على أوروبا بالفعل التنقل في عالم من التوترات الجيوسياسية المتزايدة، خاصة بين الولايات المتحدة والصين. فهناك أيضا، خطر جدي ألا وهو أن كوفيد-١٩ سيضاعف النزعات الموجودة مسبقًا.
واختتم مقاله بقوله إن مهمة الاتحاد الأوروبي هي تحدي النقّد وإثبات أن جهوده ملموسة وفعالة في أوقات الأزمات. مذكرا بما كان جان مونيه—أبو أوروبا الموحدة- قد كتبه في مذكراته بأن "أوروبا سوف تتشكل في أزمات، وستكون مجموع الحلول المعتمدة لتلك الأزمات". مضيفا:"فلتكن تلك فلسفتنا التوجيهية بينما نحارب هذه الأزمة ونستعد لما يأتي بعدها".
وتسابق الولايات المتحدة الزمن من أجل إعلان تحقيق النصر على كورونا وتحجيم انتشاره مثلما فعلت الصين، وقال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إن بلاده أجرت عددا من الأبحاث الخاصة بعلاج كورونا عن طريق بلازما الدم وتوصل العلماء لنتائج جيدة بالتعاون مع بعض الدول. وأكد ترامب أن إدارته قررت تمديد التوجيهات للبقاء في المنزل حتى 30 أبريل. وأضاف أن نسبة الوفيات بسبب كورونا في الولايات المتحدة سوف تنحسر خلال أسبوعين، مشيرا إلى أن بلاده وضعت تاريخ الـ30 من أبريل موعدا لانحسار كورونا في الولايات المتحدة.
استغلال التقاعس الأمريكي
وتسعى الصين اليوم لملء الفراغ الذي سببته هشاشة النظام الأمريكي في مواجهة فيروس كورونا، وتصور نفسها على أنها زعيمة العالم فيما يتعلق بالرد على انتشار الوباء.
وتشن الآن بكين حملة إعلامية محلية ودولية كبيرة للترويج لسياستها الناجحة في مواجهة الوباء وللمقارنة بنجاح، بين الجهود التي تبذلها والجهود التي تبذلها الدول الغربية ولاسيما الولايات المتحدة.
وأكد نائب وزير الخارجية الصيني لوه تشاو هوي في تصريحات في مؤتمر صحفي خلال شهر مارس، أن الصين تعهدت بتقديم مساعدات طارئة الى أكثر من 80 دولة فضلا عن منظمات دولية وإقليمية تضم منظمة الصحة العالمية والاتحاد الأفريقي.
وقال لوه إن الصين تبرعت بـ20 مليون دولار أمريكي إلى منظمة الصحة العالمية من أجل تسهيل التعاون الدولي في هذا المجال.
كما ذكر لوه أن الرئيس الصيني شي جين بينج أولى اهتماما بالغا بالمكافحة العالمية للوباء، والتقى شخصيا برئيس وزراء كمبوديا ورئيس منغوليا ورئيس باكستان والمدير العام لمنظمة الصحة العالمية. وأجرى 26 محادثة هاتفية مع 22 من القادة الأجانب ورؤساء المنظمات الدولية خلال الشهرين الماضيين، وقدم التعازي لقادة من كوريا الجنوبية وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا ودول أخرى، ورد على رسائل بيل جيتس وغيره من الأصدقاء الأجانب.
صربيا أول المتحولين
ومنذ أيام قبل الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش العلم الصيني إعرابا عن امتنانه العميق لدعم ومساعدة الصين حكومة وشعبا لبلاده خلال هذه الأوقات العصيبة التي تمر بها صربيا.
ووصل فريق طبي مؤلف من 6 خبراء صينيين إلى مطار نيكولا تيسلا الدولي في بلغراد بصربيا لمساعدتها في مكافحة فيروس كورونا الجديد، ومعه أكثر من عشر أطنان من أجهزة التنفس والكمامات الطبية وصناديق الكشف عن فيروس كورونا الجديد أرسلتها الحكومة الصينية.
واستقبل فوتشيتش أعضاء الفريق الطبي واحدا تلو الآخر في مراسم رسمية معربا عن ترحيبه الحار وشكره الصادق لهم.
غضب إيطالي
ومنذ أسابيع أنزل مواطنون إيطاليون علم الاتحاد الأوروبي ورفعوا مكانه علم الصين، في خطوة منهم لشكر الصين على دعمها المستمر.
وأظهرت أزمة فيروس كورونا المستجد، التي انتشرت بشكل كبير في دول القارة الأوروبية، في بدايتها ضعفًا في مبدأ “التضامن” الذي يشكل أساس الاتحاد الأوروبي، كما أظهرت مؤسسات الاتحاد عدم فعالية، في حل هذه الأزمة الخطيرة، مرجحة المنافع القومية على مصالح الاتحاد.
وكانت إيطاليا التي تعد أكثر دولة تضررت من وباء كورونا، إحدى أعضاء الاتحاد الأوروبي الذين عبروا عن انزعاجهم وعدم رضاهم عن أداء الاتحاد الأوروبي بسبب عدم التضامن معها.
المصدر : صدي البلد